يناير 10, 2023 - 6:39 م

194

ترجم الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) -في كتابه ‘الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة‘- لـ170 ‏محدِّثة منهن 54 شيخة له، وقال الإمام نجم الدين ابن فهد المكي (ت 885هـ/1480م) إنه أخذ العلم عن 130 شيخة، ولتلميذه الإمام السخاوي (ت 902هـ/1496م) حوالي 85 شيخة ذكرهن في كتابه ‏‘الضوء اللامع لأهل القرن التاسع‘، وشيخات معاصره الحافظ السيوطي (ت 911هـ) يصلن إلى 44 شيخة.

هذه الإحصاءات الرقمية تؤشر إلى رسوخ حضور النساء في الحياة العلمية الإسلامية وقوة تأثيرهن في أوساطه، كما توضح تلك العينات النسائية المكثفة -المترجَم لها من قبل أولئك الأعلام- حرصَ المجتمع العلمي على إبراز ذلك الإسهام النسوي المعرفي وتوثيقه والتنويه باتساعه، ومن ثم فإن الحديث عن “الموَّقِّعات عن الله” من أهل الفتوى والدراية العلمية النسوية سوف يجد له مسوِّغاً ومتَّسعاً لمتانة القاعدة العلمية للنساء في الحضارة الإسلامية، وكذلك لقبول مجتمع الرجال بهذا الوجود العلمي النسوي بل والاعتزاز به وبالأخذ عن ربّاته.

وبالتالي فإن حضور المفتيات والفقيهات في المجال العام الإسلامي كان جزءاً من هذا الكل المعرفي النسائي الزاخر، حيث لم يخلُ قُطر من أقطار الإسلام في عصر من العصور من فقيهات “موقِّعات عن الله”. ولعل من أسباب هذا الحضور المتميز أن تمكين النساء لم يكن ينتظر قرارا سياسيا، ولا سلطة تُصدر قانونا يرخص لهن بممارسته والتمتع بميزته، لأنه لا حجر شرعيا في الأصل على النساء في التعلم والتعليم، بل ثمة واجب مُلقى عليهن في طلب العلم ونشره، وأيضا فإن إطلالات المرأة العلمية كان مستندها العملي الرئيس الخبرات العلمية لأمهات المؤمنين ونظيراتهن من الصحابيات العالمات وتلميذاتهن من النساء التابعيات.

فقد كنّ جميعهن من الركائز المعرفية التي قامت عليها مبكرا نهضة العلوم الإسلامية بما فيها من رجال العلم ونسائه، وانطلاقا من تلك الدفعة العلمية الكبيرة في عصر الصحابيات والتابعيات تجذرت تلك المشروعية لنشاط المرأة المجتمعي بما فيه إسهامها المعرفي؛ فقد نقل الإمام ابن القيم (ت 751هـ/1350م) أن “الذين حُفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول ‏الله ﷺ مئة ونيف وثلاثون نفسا، ما بين رجل وامرأة”، وذكر منهم نحو اثنتين وعشرين مفتية.

وإذا كانت بعض المناصب الشرعية -مثل القضاء- تحتاج إذنا سياسيا حتى لمتولِّيها من الرجال؛ فإن ممارسة الإفتاء خاصة والتعليم عامة لا يحتاج إلى إذن لا للرجل ولا للمرأة، ويكفي فقط أن يُعرف ممارِسه أو ممارِسته بالكفاءة والنزاهة داخل المجتمع العلمي، كما أن نفاذ الرأي العلمي لا يعود إلى جنس القائل بل إلى قوة حجته واستقامته الشرعية.

وهذه الشروط الموضوعية هي التي أهلت الحضارة الإسلامية لأن تكون فضاء خصبا لمئات من الفقيهات والمفتيات والمحدِّثات والأديبات والشاعرات… إلخ، حيث تشير الأرقام إلى أن ‏عدد الفقيهات اللائي كانت لهن علاقة بمكة المكرمة -‏إقامةً أو جوارا أو زيارة خلال القرن التاسع الهجري/الـ15م وحده- بلغ زهاء 270 فقيهة!!

لكن رغم هذا الحضور الراسخ للنساء في الأوساط المعرفية الإسلامية فإن كتب الفقه أهملت ذكر ‏أقوالهن الفقهية ومذاهبهن، ما عدا أقوال أمهات المؤمنين -وبالأخص عائشة- وبعض نساء صدر الإسلام. وثمة أسباب عدة لهذا الإهمال لعل أشهرها زهد الكثير من الفقيهات في الكتابة والتأليف العلمي، وأسباب أخرى تتعلق بمناهج الفقهاء وتعاملهن مع “المشهور” من الأقوال العلمية والآراء الفقهية، وهو ما كان متعذِّرا على النساء في ظل ظروف المجتمعات الإسلامية القديمة؛ فكل ذلك جعل الغلبة للرجال على النساء في ذكر الرأي الفقهي المدوَّن.

ومع تلك الجوانب السلبية التي اعترت المسيرة العلمية لمعظم “الموقعات عن رب العالمين” فإن تأثيرهن في العقل المعرفي الإسلامي ظل حقيقة لا تُنكَر، بل تُذكَر موثَّقة بالتدوين ومعضَّدة بالأسانيد المعتمَدة والمسلسَلة بأئمة الرجال قبل النساء!! ومن ثم فإنه لا مسوِّغ للجدل الذي يحتدم أحيانا في البلاد العربية والإسلامية بشأن تعليم المرأة المسلمة، أو تعيين دُورِ ومؤسساتِ الإفتاء الرسمية نساءً “مفتياتٍ” بين مؤيد ومعارض؛ وهو جدل عززته عوامل متعددة بينها تحكّمُ سلطان العادة باعتبار أغلب المفتين ‏والفقهاء عبر التاريخ كانوا رجالا، وكذلك الخلطُ في أذهان الناس بين ‏وظيفتيْ الإفتاء والقضاء، حيث دار خلاف بين الأقدمين في جواز تولي المرأة منصب ‏القضاء، ولم تكن الفتوى كذلك.

وتلك العوامل هي ما يجعل الحاجة قائمة للعودة إلى أيام المجد العلمي للحضارة الإسلامية؛ لكشف العلاقة الوثيقة التي قامت بين النساء والإفتاء والفقه وشتى فنون العلم الشرعي، والتعرف على مظاهر تلك العلاقة تنظيرا وممارسة. وذلك تحديدا ما تسعى إليه هذه المقالة -التي وثّقت بالأسماء الإسهامَ العظيم لـ20 شخصية من نساء العلم والفتوى- راصدةً تجليات التأثير النسوي في الحياة العلمية للمجتمعات الإسلامية، وما كُنّ عليه من حضور بارز ومتميز زاحمن به الأئمة من الرجال، بل وأسهمن به -أحيانا كثيرة- في تكوين هؤلاء الأئمة.